فصل: تفسير الآيات (1- 3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد}..
وينتهي إلى التفويض المطلق في أمرهم؛ مع تقرير عبوديتهم لله وحده. وتقرير قوة الله على المغفرة لهم أو عذابهم؛ وحكمته فيما يقسم لهم من جزاء سواء كان هو المغفرة أو العذاب:
{إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}..
فيا لله للعبد الصالح في موقفه الرهيب!
وأين أولئك الذين أطلقوا هذه الفرية الكبيرة؛ التي يتبرأ منها العبد الطاهر البريء ذلك التبرؤ الواجف، ويبتهل من أجلها إلى ربه هذا الابتهال المنيب؟
أين هم في هذا الموقف، في هذا المشهد؟.
إن السياق لا يلقي إليهم التفاته واحدة. فلعلهم يتذاوبون خزياً وندماً. فلندعهم حيث تركهم السياق! لنشهد ختام المشهد العجيب:
{قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم}..
.. هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم.. إنه التعقيب المناسب على كذب الكاذبين؛ الذين أطلقوا تلك الفرية الضخمة على ذلك النبي الكريم. في أعظم القضايا كافة.. قضية الألوهية والعبودية، التي يقوم على أساس الحق فيها هذا الوجود كله وما فيه ومن فيه..
.. هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم.. إنها كلمة رب العالمين، في ختام الاستجواب الهائل على مشهد من العالمين.. وهي الكلمة الأخيرة في المشهد. وهي الكلمة الحاسمة في القضية. ومعها ذلك الجزاء الذي يليق بالصدق والصادقين:
{لهم جنات تجري من تحتها الأنهار}..
{خالدين فيها أبداً}..
{رضي الله عنهم}..
{ورضوا عنه}..
درجات بعد درجات.. الجنات والخلود ورضا الله ورضاهم بما لقوا من ربهم من التكريم:
{ذلك الفوز العظيم}..
ولقد شهدنا المشهد- من خلال العرض القرآني له بطريقة القرآن الفريدة- وسمعنا الكلمة الأخيرة.. شهدنا وسمعنا لأن طريقة التصوير القرآنية لم تدعه وعداً يوعد، ولا مستقبلاً ينتظر؛ ولم تدعه عبارات تسمعها الآذان أو تقرؤها العيون. إنما حركت به المشاعر، وجسمته واقعاً اللحظة تسمعه الآذان وتراه العيون..
على أنه إن كان بالقياس إلينا- نحن البشر المحجوبين- مستقبلاً ننتظره يوم الدين، فهو بالقياس إلى علم الله المطلق، واقع حاضر. فالزمن وحجابه إنما هما من تصوراتنا نحن البشر الفانين..
وفي نهاية هذا الدرس؛ وفي مواجهة الفرية الكبرى التي لم يفتر أضخم منها قط أتباع رسول! في مواجهة الفرية الكبرى التي أطلقها أتباع المسيح عيسى بن مريم- عليه السلام- فرية ألوهيته؛ الفرية التي تبرأ منها هذا التبرؤ، وفوض ربه في أمر قومه بشأنها هذا التفويض..
في مواجهة هذه الفرية، وفي نهاية الدرس الذي عرض ذلك الاستجواب الرهيب عنها، في ذلك المشهد العظيم.. يجيء الإيقاع الأخير في السورة؛ يعلن تفرد الله- سبحانه- بملك السماوات والأرض وما فيهن؛ وقدرته- سبحانه- على كل شيء بلا حدود:
{لله ملك السماوات والارض وما فيهن وهو على كل شيء قدير}..
ختام يتناسق مع تلك القضية الكبرى التي أطلقت حولها تلك الفرية الضخمة، ومع ذلك المشهد العظيم الذي يتفرد الله فيه بالعلم، ويتفرد بالألوهية، ويتفرد بالقدرة، وينيب إليه الرسل؛ ويفوضون إليه الأمر كله؛ ويفوض فيه عيسى بن مريم أمره وأمر قومه إلى العزيز الحكيم. الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن، وهو على كل شيء قدير..
وختام يتناسق مع السورة التي تتحدث عن الدين وتعرضه ممثلاً في اتباع شريعة الله وحده، والتلقي منه وحده، والحكم بما أنزله دون سواه.. إنه المالك الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن، والمالك هو الذي يحكم: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} إنها قضية واحدة.. قضية الألوهية.. قضية التوحيد.. وقضية الحكم بما أنزل الله.. لتتوحد الألوهية، ويتحقق التوحيد..

.سورة الأنعام:

.تفسير الآيات (1- 3):

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)}
إنها اللمسات العريضة للحقيقة الكبيرة؛ والإيقاعات المديدة في مطلع السورة. وهي ترسم القاعدة الكلية لموضوع السورة ولحقيقة العقيدة:
{الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون}..
إنها اللمسات الأولى.. تبدأ بالحمد لله. ثناء عليه، وتسبيحاً له، واعترافاً بأحقيته للحمد والثناء، على ألوهيته المتجلية في الخلق والإنشاء.. بذلك تصل بين الألوهية المحمودة وخصيصتها الأولى.. الخلق.. وتبدأ بالخلق في أضخم مجالي الوجود.. السماوات والأرض.. ثم في أضخم الظواهر الناشئة عن خلق السماوات والأرض وفق تدبير مقصود.. الظلمات والنور.. فهي اللمسة العريضة التي تشمل الأجرام الضخمة في الكون المنظور، والمسافات الهائلة بين تلك الأجرام، والظواهر الشاملة الناشئة عن دورتها في الأفلاك.. لتعجب من قوم يرون صفحة الوجود الضخمة الهائلة الشاملة تنطق بقدرة الخالق العظيم كما تنطق بتدبيره الحكيم، وهم بعد ذلك كله لا يؤمنون ولا يوحدون ولا يحمدون؛ بل يجعلون لله شركاء يعدلونهم به ويساوونه:
{ثم الذين كفروا بربهم يعدلون}..
فيا للمفارقة الهائلة بين الدلائل الناطقة في الكون، وآثارها الضائعة في النفس! يا للمفارقة التي تعدل الأجرام الضخمة، والمسافات الشاسعة، والظواهر الشاملة.. بل تزيد..
واللمسة الثانية:
{هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون}:
إنها لمسة الوجود الإنساني، التالي في وجوده للوجود الكوني. ولظاهرتي الظلمات والنور. لمسة الحياة الإنسانية في هذا الكون الخامد. لمسة النقلة العجيبة من عتمة الطين المظلم إلى نور الحياة البهيج؛ تتناسق تناسقاً فنياً جميلاً مع {الظلمات والنور}.. وإلى جانبها لمسة أخرى متداخلة: لمسة الأجل الأول المقضى للموت، والأجل الثاني المسمى للبعث.. لمستان متقابلتان في الهمود والحركة كتقابل الطين الهامد والخلق الحي في النشأة.. وبين كل متقابلين مسافة هائلة في الكنه والزمن.. وكان من شأن هذا كله أن ينقل إلى القلب البشري اليقين بتدبير الله، واليقين بلقائه. ولكن المخاطبين بالسورة يشكون في هذا ولا يستيقنون:
{ثم أنتم تمترون}..
واللمسة الثالثة تضم اللمستين الأوليين في إطار واحد؛ وتقرر ألوهية الله في الكون والحياة الإنسانية سواء:
{وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون}..
إن الذي خلق السماوات والأرض هو الله في السماوات وفي الأرض. هو المتفرد بالألوهية فيهما على السواء. وكل مقتضيات الألوهية متحققة عليهما، من خضوع للناموس الذي سنه الله لهما، وائتمار بأمره وحده. وكذلك ينبغي أن يكون الشأن في حياة الإنسان. فلقد خلقه الله كما خلق السماوات والأرض؛ وهو في تكوينه الأول من طين هذه الأرض؛ وما رزقه من خصائص جعلت منه إنساناً رزقه إياه الله؛ وهو خاضع من ناحية كيانه الجسمي للناموس الذي سنه الله له- رضي أم كره- يعطى وجوده وخلقه ابتداء بمشيئة الله، لا بمشيئته هو ولا بمشيئة أبيه وأمه: فهما يلتقيان ولكن لا يملكان أن يعطيا جنيناً وجوده! وهو يولد وفق الناموس الذي وضعه الله لمدة الحمل وظروف الولادة! وهو يتنفس هذا الهواء الذي أوجده الله بمقاديره هذه؛ ويتنفسه بالقدر وبالكيفية التي أرادها الله له.
وهو يحس ويتألم، ويجوع ويعطش، ويأكل ويشرب.. وبالجملة يعيش.. وفق ناموس الله، على غير إرادة منه ولا اختيار.. شأنه في هذا شأن السماوات والأرض سواء.
والله- سبحانه- يعلم سره وجهره. ويعلم ما يكسب في حياته في سره وجهره.
والأليق به أن يتبع- إذن- ناموس الله في حياته الاختيارية- فيما يتخذه من تصورات اعتقادية، وقيم اعتبارية، وأوضاع حيوية- لتستقيم حياته الفطرية المحكومة بناموس الله؛ مع حياته الكسبية حين تحكمها شريعة الله. ولكي لا يناقض بعضه بعضاً، ولا يصادم بعضه بعضاً؛ ولا يتمزق مزقاً بين ناموسين وشرعين: أحدهما إلهي والأخر بشري وما هما بسواء..
إن هذه الموجة العريضة الشاملة في مطلع السورة، إنما تخاطب القلب البشري والعقل البشري بدليل الخلق ودليل الحياة ممثلين في الآفاق وفي الأنفس.. ولكنها لا تخاطب بهما الإدراك البشري خطاباً جدلياً لاهوتياً أو فلسفياً! ولكن خطاباً موحياً موقظاً للفطرة، حيث يواجهها بحركة الخلق والإحياء؛ وحركة التدبير والهيمنة؛ في صورة التقرير لا في صورة الجدل؛ وبسلطان اليقين المستمد من تقرير الله؛ ومن شهادة الفطرة الداخلية بصدق هذا التقرير فيما تراه.
ووجود السماوات والأرض، وتدبيرهما وفق هذا النظام الواضح؛ ونشأة الحياة- وحياة الإنسان في قمتها- وسيرها في هذا الخط الذي سارت فيه.. كلاهما يواجه الفطرة البشرية بالحق، ويوقع فيها اليقين بوحدانية الله.. والوحدانية هي القضية التي تستهدف السورة كلها- بل القرآن كله- تقريرها. وليست هي قضية وجود الله. فلقد كانت المشكلة دائماً في تاريخ البشرية هي مشكلة عدم معرفة الإله الحق، بصفاته الحقة؛ ولم تكن هي مشكلة عدم الإيمان بوجود إله!
ومشركو العرب الذين كانت هذه السورة تواجههم ما كانوا يجحدون الله البتة؛ بل كانوا يقرون بوجوده سبحانه، وبأنه الخالق الرازق، المالك، المحيي المميت.. إلى كثير من الصفات- كما يقرر القرآن ذلك في مواجهتهم، وفي حكاية أقوالهم- ولكن انحرافهم الذي وصمهم بالشرك هو أنهم ما كانوا يعترفون بمقتضى اعترافهم ذاك: من تحكيم الله- سبحانه- في أمرهم كله؛ ونفي الشركاء له في تدبير شؤون حياتهم؛ واتخاذ شريعته وحدها قانوناً، ورفض مبدأ تحكيم غير الله في أي شأن من شؤون الحياة.
هذا هو الذي وصمهم بالشرك وبالكفر؛ مع إقرارهم بوجود الله سبحانه، ووصفه بتلك الصفات، التي من مقتضاها أن يتفرد سبحانه بالحكم في شأنهم كله، بما أنه الخالق الرازق المالك، كما كانوا يعترفون.
ومواجهتهم في مطلع هذه السورة بصفات الله هذه من الخلق للكون وللإنسان، ومن تدبيره لأمر الكون وأمر الإنسان؛ ومن علمه وإحاطته بسرهم وجهرهم وعملهم وكسبهم.. إنما هو المقدمة التي يرتب عليها ضرورة إفراده سبحانه بالحاكمية والتشريع، كما أوضحنا في التعريف المجمل بخط السورة ومنهجها.
ودليل الخلق ودليل الحياة كما أنهما صالحان لمواجهة المشركين لتقرير الوحدانية، ولتقرير الحاكمية، هما كذلك صالحان لمواجهة اللوثات الجاهلية الحديثة التافهة في إنكار الله..
والحقيقة أن هناك شكاً كثيراً فيما إذا كان هؤلاء الملحدون يصدقون أنفسهم! فأغلب الظن أنها بدأت مناورة في وجه الكنيسة؛ ثم استغلها اليهود لرغبتهم في تدمير قاعدة الحياة البشرية الأساسية، كي لا يبقى على وجه الأرض من يقوم على هذه القاعدة غيرهم- كما يقولون في بروتوكولات حكماء صهيون- ومن ثم تنهار البشرية وتقع تحت سيطرتهم، بما أنهم هم وحدهم الذين سيحافظون على مصدر القوة الحقيقية الذي توفره العقيدة!
واليهود- مهما بلغ من كيدهم ومكرهم- لا يملكون أن يغلبوا الفطرة البشرية، التي تجد في قرارتها الإيمان بوجود إله- وإن كانت تضل فقط في معرفة الإله الحق بصفاته الحقة؛ كما أنها تنحرف بعدم توحيد سلطانه في حياتها، فتوصم بالشرك والكفر على هذا الأساس- ولكن بعض النفوس تفسد فطرتها، وتتعطل فيها أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية. وهذه النفوس وحدها هي التي يمكن أن يفلح معها كيد اليهود الذي يستهدف نفي وجود الله فيها. ولكن هذه النفوس المعطلة الفطرة ستظل قليلة وشاذة في مجموع البشر في كل زمان.. والملحدون الحقيقيون على ظهر الأرض اليوم لا يتجاوزون بضعة ملايين في روسيا والصين من بين مئات الملايين الذين يحكمهم الملحدون بالحديد والنار؛ على الرغم من الجهد الناصب خلال أربعين عاماً في نزع الإيمان بكل وسائل التعليم والإعلام!
إنما يفلح اليهود في حقل آخر. وهو تحويل الدين إلى مجرد مشاعر وشعائر. وطرده من واقع الحياة. وإيهام المعتقدين به أنهم يمكن أن يظلوا مؤمنين بالله؛ مع أن هناك أرباباً أخرى هي التي تشرع لحياتهم من دون الله! ويصلون بذلك إلى تدمير البشرية فعلاً، حتى مع وهمها أنها لا تزال تؤمن بالله.
وهم يستهدفون الإسلام- قبل كل دين آخر- لأنهم يعرفون من تاريخهم كله، أنهم لم يغلبهم إلا هذا الدين يوم كان يحكم الحياة. وأنهم غالبو أهله طالما أهله لا يحكمونه في حياتهم؛ مع توهمهم أنهم ما يزالون مسلمين مؤمنين بالله! فهذا التخدير بوجود الدين- وهو غير موجود في حياة الناس- ضروري لتنجح المؤامرة.. أو يأذن الله فيصحو الناس!
وأحسب- والله أعلم- أن اليهود الصهيونيين، والنصارى الصليبيين، كليهما، قد يئسوا من هذا الدين في هذه المنطقة الإسلامية الواسعة في إفريقية وآسيا وأوربا كذلك.
يئسوا من أن يحولوا الناس فيها إلى الإلحاد- عن طريق المذاهب المادية- كما يئسوا كذلك من تحويلهم إلى ديانات أخرى عن طريق التبشير أو الاستعمار.. ذلك أن الفطرة البشرية بذاتها تنفر من الإلحاد وترفضه حتى بين الوثنيين- فضلاً على المسلمين- وأن الديانات الأخرى لا تجرؤ على اقتحام قلب عرف الإسلام، أو حتى ورث الإسلام!
وأحسب- والله أعلم- أنه كان من ثمرة اليأس من هذا الدين أن عدل اليهود والصهيونيون والنصارى الصليبيون عن مواجهة الإسلام جهرة عن طريق الشيوعية أو عن طريق التبشير؛ فعدلوا إلى طرائق أخبث، وإلى حبائل أمكر.. لجأوا إلى إقامة أنظمة وأوضاع في المنطقة كلها تتزيا بزي الإسلام؛ وتتمسح في العقيدة؛ ولا تنكر الدين جملة.. ثم هي تحت هذا الستار الخادع، تنفذ جميع المشروعات التي أشارت بها مؤتمرات التبشير وبروتوكولات صهيون، ثم عجزت عن تنفيذها كلها في المدى الطويل!